فصل: فصل: معنى المرض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: معنى المرض:

وأما المرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وقال: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري: أصل المرض في اللغة الفساد مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ** تبع أقصى دائها فشفاها

وقال آخر:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ** فقد الحسين والبلاد اقشعرت

والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال:
راحت لأربعك الرياح مريضة

أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي: أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه: المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها قال والمرض الظلمة وأنشد:
وليلة مرضت من كل ناحية ** فما يضيء لها شمس ولا قمر

هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.

.فصل: معنى تقليب الأفئدة:

وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون واختلف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقال كثير من المفسرين المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.
قال ابن عباس: في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقال آخرون: المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم وهذا معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم} والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» وروى الترمذي من حديث أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال: «نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي بن زياد عن الحسن قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال: «إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال ابن عباس: أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون.

.فصل: معنى الإزاغة:

وأما إزاغة القلوب فقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فإزاغة القلب إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر} وقال قتادة ومقاتل: شخصت فرقا وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب وقال الكلبي: مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم.
وقال الفراء: زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه.
قلت: القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابله.

.فصل: معنى الخذلان:

وأما الخذلان فقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} وأصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري.
والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك» فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة: سمعت ابن أبي الدنيا يقول: أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره.
لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه: أن قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة إلحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مرة وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

.فصل: معنى الإركاس:

وأما الإركاس فقال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} قال الفراء: أركسهم ردهم إلى الكفر.
وقال أبو عبيدة: يقال ركست الشيء وأركسته لغتان إذا رددته والركس قلب الشيء على رأسه أورد أوله على آخره والارتكاس الارتداد قال أمية:
فاركسوا في حميم النار إنهم ** كانوا عصاة وقالوا الإفك الزورا

ومن هذا يقال للروث الركس لأنه رد إلى حال النجاسة ولهذا المعنى سمي رجيعا والركس والنكس والمركوس والمنكوس بمعنى واحد قال الزجاج: أركسهم نكسهم وردهم والمعنى أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار.
وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله وإن كان إركاسه كان بسبب كسبهم وأعمالهم كما قال: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فهذا توحيده وهذا عدله لا ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر.

.فصل: معنى التثبيط:

وأما التثبيط فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس: يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج.
وقال في رواية أخرى: حبسهم.
قال مقاتل: وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين.
وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} فلما تركوا الإيمان به وبلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا وَلأَوْضَعُوا} والخبال الفساد والاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس: ما زادوكم إلا خبالا عجزا وجبنا.
يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم وتعظيمهم في صدورهم ثم قال: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُم} أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس: يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو.
وقال الحسن: لا أوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين.
وقال الكلبي: ساروا بينكم يبغونكم العيب.
قال لبيد:
أرانا موضعين لختم عيب ** وسحر بالطعام وبالشراب

أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
تبا لهن بالعرفان لما عرفنني ** وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا

أي أسرع حتى كلت مطيته: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قال قتادة: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم.
وقال ابن إسحاق: وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم.
ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا له فالقول قول قتادة وابن إسحاق والله أعلم فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتّباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما: الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه والثاني: التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا الموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غير أهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.